بين الأدب والفن والنفس
بين العبقرية والجنون
الدكتور هاشم صالح / كاتب ومفكر
لماذا كل هذا الخطر على العبقري؟ لأنه ليس من الطبيعي أن تكون عبقرياً، وإنما الطبيعي أن تكون عادياً مثلك مثل بقية البشر. ولذا فما إن يشعر الناس بأنك عبقري، أو تحمل بذرة العبقرية في داخلك، حتى يعترضوا طريقك ويحاولوا الإيقاع بك بشتى الأسباب. فالحسد قاتل أحياناً. وأحياناً يجيء من قبل عباقرة سابقين لا يريدون أن تتفتح أي موهبة بعدهم. وتروي الأسطورة أن أم كلثوم قد ساهمت في القضاء على أسمهان لأنها غارت منها وخافت أن تنافسها بعد أن سمعت صوتها وعرفت أنها عبقرية. وسواء كانت هذه الحكاية صحيحة أم لا فإنها تدل على شي ء ما. وتروي الروايات أن شعراء كباراً حاولوا القضاء على بعض المواهب الجديدة أو الصاعدة لأنهم أحسوا بأنها تشكل خطراً على أمجادهم.. نعم إن العبقري يدخل في الدائرة الحمراء للخطر ما إن يشعر بعضهم بأنه قد يصبح عبقرياً ويحل محلهم.
ولكن هناك خطراً أخر يهدد العبقري كما ألمحنا إلى ذلك أكثر من مرة ألا وهو: الجنون أو التوتر العقلي الشديد أو الهيجان. وقد أثبتت أخر دراسة احصائية أجريت مؤخراً على هذا الموضوع أنه نادراً ما يخلو عبقري ما من إمارات الجنون أو التوتر النفسي الحاد. وقد قام بهذه الدراسة الباحث فيليكس بوست عام 1994، أي أنها حديثة العهد جداً، وشملت 291 شخصية تنتمي إلى عالم السياسة والفلسفة والعلم والفن والموسيقى والشعر والأدب.. وهي شخصيات عبقرية ظهرت في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين. وتبين بعد إجراء هذه الدراسة أن هؤلاء العباقرة يتميزون بصفات غير طبيعية. فهناك نسبة 50% منهم يتميزون باضطرابات نفسية حادة جداً، بل وتشلهم عن الإبداع في بعض فترات العمر. وترتفع هذه النسبة لدى الفلاسفة فتصل إلى 60%، ولكنها أعلى ما تكون لدى الأدباء، والشعراء خصوصاً حيث تصل إلى 70%. ثم تنخفض لدى الرسامين والموسيقيين ورجال السياسة (حوالي 30% ) ولا نستطيع أن نحصي عدد الشعراء والروائيين الذين أصيبوا بالجنون أو المرض العقلي بشكل جزئي أو كلي، مؤقت أو دائم، ولكن هذا لا يلغي إبداعهم أو عظمتهم و عبقريتهم.
فلا أحد يستطيع أن ينكر عظمة شعر جيرار دونرفال لمجرد أنه جن أو انتحر، ولا أحد يشك بعبقرية دوموباسان لأنه مات في المصح العقلي بعد أن انهارت قواه النفسية. ولا أحد يستطيع أن يقول بأن نيتشه ليس فيلسوفاً كبيراً لمجرد أنه أمضى سنواته العشر الأخيرة في غيبوبة الجنون. ولا يوجد روائي في التاريخ أعظم من ديستويفسكي على الرغم من أنه كان مصاباً بالصرع.. ويرى فرويد أن الابداع هو تعويض عن نقص ما في الشخصية. وأنه لولا هذا النقص لما أصبح المبدع مبدعاً . فالإنسان المتصالح مع نفسه ومع الواقع الخارجي ليس بحاجة لأن يكون عبقرياً وأكبر دليل على ذلك فرويد نفسه الذي كان مصاباً بالعصاب ولم يشف منه إلا بعد أن اكتشف تلك القارة المظلمة والمعتمة والهائلة: أي اللاوعي. فلا ريب في أن الاكتشاف أو الابداع ينقذ العبقري أو يعيد إليه توازنه. يقول الفيلسوف كيرغارد الذي كان معقداً جداً من الناحية النفسية: أن المرض هو السبب الأساسي لكل اندفاعة ابداعية. وبالابداع أشفي نفسي من أوجاعي وهمومي. بالابداع أسترد الصحة والعافية". والواقع أن هذه الكلمات هي للشاعر"هيني" ولكن كيركغارد استشهد بها، وكذلك فرويد. وكان ويلكه يعترف بأنه لم يكتب قصيدة واحدة إلا من خلال العذاب النفسي والقلق.
ومن المعلوم أن العقد النفسية الموروثة عن طفولته كانت تلاحقه كالأخطبوط ولا يستطيع منها فكاكاً إلا عن طريق الابداع. ثم سرعان ما تعود بعد انتهاء عملية الإبداع. وهكذا كان يتوازن باستمرار من خلال اللاتوازن. أو قل كان دائماً يشعر بأنه على شفا حفرة من الانهيار وأنه مهدد بالسقوط في كل لحظة. وكان مضطراً لتأجيل لحظة الجنون الكامل في كل مرة. ومن المعلوم أن رامبو كان يكتب وهو على حافة الجنون، وكان يتقصد الجنون تقصداً. كان مهووساً بتلك النقطة الغائرة في الأعماق والأقاصي، تلك النقطة التي لا يستطيع أن يصل إليها أي شاعر إلا إذا غامر بنفسه واقترب من منطقة الخطر الأعظم. عندئذ كانت تخرج القصائد العبقرية. واعترف سارتر نفسه بأنه لم يتخلص من مرض العصاب الذي كان يلاحقه إلا عن طريق الكتابة. فالكتابة تمتص الجنون الداخلي وتساعد على التخلص منه أو تحجيمه على الأقل. نقول ذلك وبخاصة إذا نجحت وأدت إلى إبداع حقيقي. والواقع انه لا يوجد فنان حقيقي إلا ويعاني من مرض ما. أو مشكلة معينة. الإبرة التي توخز الكاتب وتدفعه دفعاً إلى عملية الإبداع. وبالتالي فلا ينبغي أن يخاف الكاتب إن كان يعاني من عقدة نفسية معينة أو من جرح داخلي حتى لو استغله الآخرون ضده . فربما كان هذا الجرح كنزه الوحيد. وهو على أي حال يشكل مصدر عبقريته وسر إبداعه.
الهوامش:
1- من المعلوم أن ميشيل فوكو ختم كتابه الشهير "تاريخ الجنون في العمر الكلاسيكي" برفع ثناء حار إلى الجنون. وطلب من العقل أن يمثل أمام محكمة الجنون لا آلكس. فجنون هولدرلين وأنطونين أرتو ونيتشه هو الذي ينبغي أن يحاكم العقل الغربي، ولا يحق لهذا العقل إطلاقاً أن يحاكم جنونهم، وأن يرتفع إلى مستواه. أنظر: Michel Faucault: Histoire de la folie à la âge classique (الصفحات الأخيرة) Gallimard 2972.
2- اعتمدت كثيراً في تحضير هذه الدراسة على المرجع التالي الصادر حديثاً في العاصمة الفرنسية: فيليب برينو: العبقرية والجنون، منشورات بلون، باريس 1997 Philippe Brenot: Le et folie, pion, Paris 2791. وكلام اندريه مورو وارد في مقدمة الكتاب، الصفحة (9).
3- المصدر السابق ب، ص 13.
4 - للمزيد من التوسع حول أحلام ديكارت الثلاثة تلك الليلة الشهيرة انني: جننييف رود يسر - لويس: ديكارت. سيرة ذاتية، منشورات كالمان ليفي، باريس 1995. ص 63 وما بعدها. Geneviéve Rodis - Lewis: Descartes. Biographie. Almann - Lévy. Paris 1995.
5- أنظر كتاب فيليب برينو عن العبقرية والجنون، ص 45.
6- نحيل القاريء هنا إلى السيرة الذاتية التالية لبلزاك: هنري ترويا. بلزاك. منشورات فلاماريون، باريس، 1995. Henri Troyat: Balzac. Flam marion. Paris. 1995.
7- أنظر كتاب فيليب برينو السالف الذكر، ص 52.
8- المصدر السابق، ص 120.
9- المصدر السابق، ص 121.
تم النشر في 21/4/2006
للمزيد حول الموضوع يمكنكم الاطلاع على موضوع الإبداع والاضطراب النفسي في باب موضوعات خاصة للاختصاصيين في الموقع على الرابط التالي :
[وحدهم المديرون لديهم صلاحيات معاينة هذا الرابط]